Ru En

روسيا القيصرية تعبر المياه الدافئة إلى شمال افريقيا

١٥ أكتوبر ٢٠١٩

يعود اهتمام روسيا بشمال افريقيا إلى فترة حكم القيصر بطرس الأكبر، علماّ أن هذا الاهتمام اقتصر على الشق السياسي فقط، إذ لم تدخل هذه المنطقة دائرة البحث لدى الرحّالة والعلماء الروس إلا في وقت متأخر نسبياً، مقارنة مع مناطق أخرى في الشرق العربي.

 

وحدد القيصر (1725-1672) علاقة روسيا مع شمال افريقيا استناداً إلى الرغبة بتوسيع رقعة نفوذ الامبراطورية الروسية في الجنوب، انطلاقاً من سواحل البحر الأسود، التي كانت بمثابة نقطة العبور إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

 

لكن ثمة عقبة واجهت بطرس الأكبر، تمثّلت في الدولة العثمانية المتاخمة لحدود روسيا الجنوبية، ما أدى إلى فشل كل المحاولات الروسية الرامية إلى تأسيس قاعدة انطلاق على أي موقع مُطل على ضفاف مياه البحر الأسود الدافئة.

     

 

روسيا القيصرية تعبر المياه الدافئة إلى شمال افريقيا

كاترين الثانية في طور كتابة وثيقتها المشهورة باسم «الناكاز» / ملكية عامة

 

لعب العامل الجغرافي دوراً كان له كبير الأثر على طبيعة العلاقات بين روسيا وشمال افريقيا، إذ حالت المسافات البعيدة دون اعتماد سياسة خارجية نشطة، فكانت علاقات ثنائية شبه معدومة، مع وجود اتصالات على مستويات عُليا، كانت تُدار بمساعدة شخصيات أوروبية غربية تحظى بثقة في البلاط الروسي. وقد انعكس هذا الواقع على الاهتمام الأكاديمي والشعبي بالشمال الافريقي، وبدأ يتصاعد تزامناً مع تصعيد دور السياسة الروسية في هذا الاتجاه.

 

نجحت الامبراطورة كاترين الثانية (1796-1729) في تعزيز مواقع روسيا على سواحل البحر الأسود الشمالية، ما مهّد إلى تدشين علاقات مباشرة بين روسيا مع المغرب، الذي كان يتمتع باستقلالية، وتم أول تواصل دبلوماسي بين الجانبين، إذ عبر المغرب عن رغبته بتطوير العلاقات تجارية طيبة مع روسيا، تعود بالنفع على كلا البلدين.

 

بدأت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وروسيا بتبادل رسائل بين السلطان محمد بن عبد الله والامبراطورة كاترين الثانية، وذلك في الفترة ما بين 1778 و1783. ويُشار في هذا الشأن إلى أن روسيا كانت القوة العُظمى الوحيدة التي لم تشارك في عملية تقسيم المغرب بين دول عُظمى سعت لتحقيق مطامعها في هذا البلد، كما يُشار إلى أن البعثة الدبلوماسية الروسية الأولى في هذه المنطقة كانت بصفة مراقب محايد.

 

أما في ما يتعلق بالعلاقة مع الجزائر، فتشير المصادر الموثّقة إلى أن أول تواصل روسي رسمي مع هذا الجزء في شمال افريقيا يعود إلى مطلع القرن الـ 18. وحتى ذلك الحين كانت العلاقات الثنائية في إطار العلاقات الروسية التركية المتمثلة بالسلطة العثمانية التي كانت تسيطر عل أرض الجزائر. ولكن في عام 1720 تم توقيع اتفاقية ثنائية، بات مُتاحاً لروسيا بموجبها  إقامة علاقات مباشرة مع أراضٍ تربطها صلة، بشكل أم بآخر، مع العثمانيين، فشرعت السفن الروسية في الإبحار إلى السواحل الجزائرية.

 

روسيا القيصرية تعبر المياه الدافئة إلى شمال افريقيا

قسنطينة - مدينة جزائرية / ملكية عامة

 

في منتصف القرن الـ 18كانت هذه السفن تقوم برحلات لنقل الحمولات والسلع، وكذلك المسافرين بين ميناء الإسكندرية والجزائر. وبحسب إحصائيات وردت في كتاب "رحلة إلى مصر والنوبة في 1834 و1835" لمؤلفه أفرآم نوروف، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والإسكندرية، في الفترة ما بين 1822 و1829، ما مقداره حمولة 346 سفينة إلى الميناء المصري و327 سفينة إلى روسيا.

 

ومع مرور الوقت تضاعف هذا العدد عشرات المرات. ففي عام 1822 كان عدد السفن الروسية التي أرست في الإسكندرية 10 فقط، فإن عددها بلغ 353 سفينة في عام 1927.  وقد دوّن أفرآم نوروف ملاحظاته بشأن السكان المحليين مشيراً إلى أنهم "أكثر فطنة من الأتراك. إنهم يتعلمون بسرعة وبسهولة. إنهم أذكياء بالفطرة".

 

كما أنه نوّه عبر كتابه إلى ما وصفه "الخاصية الشرقية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام وبالنمط المحافظ المتميز. هؤلاء الشبان يذهبون إلى أوروبا لتلقي العلم، يمضون فيها 7 أو 8 سنوات، ثم يعودون إلى وطنهم بكل الصور النمطية التي حملوها معهم.. لا بل  هم أكثر تعصباً من ذي قبل وأكثر كراهية للفرنجة".

 

لم تخطط روسيا إلى إنشاء مستعمرات ما وراء البحار، على غرار الدول العُظمى، كما أنها لم تشارك في عملية تقسيم البلاد الافريقية في محاولة منها لبسط نفوذها، حتى على تلك التي تخضع بالحد الأدنى إلى الباب العالي. جعلت هذه السياسة من روسيا في وضعية مريحة أكثر في نظر السكان المحليين، بوصفها قوة عُظمى من جهة، لا تسعى إلى فرض هيمنتها من جهة ثانية.

 

روسيا القيصرية تعبر المياه الدافئة إلى شمال افريقيا

 حلقات التدريس الجامعي في الأزهر الشريف عام 1906

Gardiner, David, CC BY-SA 2.5

 

وقد وثّق العديد ممن تنقّلوا بين أرجاء هذه البلاد العلاقة الطيبة من قِبل أهالي البلاد إزاء الروس. أحد هؤلاء عالم الآثار، المؤرخ، الدبلوماسي الروسي يوري شيرباتشيوف (1917-1851)، الذي زار شمال افريقيا وأصدر كتاباً في 1883 بعنوان "رحلة إلى مصر"، والذي قال إن "اهتمام العرب بنا أمر لطيف لأبعد الحدود، إذ أنه لا يخضع لأي حسابات شخصية. يحظى مُسمّى مواطن روسي بتقييم عال يشبه مُسمّى مواطن روماني في العالم القديم".

 

أسهم تأسيس العلاقات بين روسيا وشعوب شمال افريقيا إلى تعزيز سبل التواصل بين الطرفين، كما كان للأدباء والرسامين والتجار والبحّاثة الروس، وحتى للسيّاح العاديين القادمين من روسيا إلى تلك البلاد،  دور كبير في التقارب. وفي ضوء هذه العوامل تمكّن القارئ الروسي من اكتشاف الشمال الافريقي، ابتداءً من الفترة ما بين نهاية القرن الـ 18 وبداية القرن 19.

 

الصورة: João Silas on Unsplash