Ru En

المقهى المقدس : علاقته بتاريخ الصوفية في تونس ؟

٢٠ فبراير ٢٠٢٠

تخيل صورة: حشود من الرجال يرتدون ملابس تونسية تقليدية يقفون في مداخل المقهى من جميع الجهات، يحملون المسابح في أيديهم ويرتدون العباءة البيضاء. في الخارج، ينزولون من زاوية سيدي بو سعيد الدرجات البيضاء - الزرقاء الضيقة،ويخرج العديد من المُريدين لإداء المناسك الدينية الأسبوعية. يندمج بياض عمائمهم وألباسهم مع بياض أسوار المدينة. بمجرد دخولهم المقهى، يشكلوا على الفور حلقة صغيرة في وسط المقهى. 


على الرغم من الفترة الطويلة للمقهى، لا تزال الاحجار القديمة مكسوة بألياف النخيل . تم تزيين جدران المقهى من السقف إلى الأرض بأعمدة تركية مطلية بنمط لولبي أحمر وأخضر. في وسط الغرفة يوجد مصباح كبير، يفح منه رائحة البخور الطبيعية وكذا القريبة من طعم السُكر قليلاً ، والتي ترتفع إلى السقف بشكل حلزوني - دوامة ، كما لو كنت في محادثة صامتة مع المُريدين الذين كانوا هنا في فترة ما.


لطالما كان مقهى "العاليا" لذي يملكه سيدي أبو سعيد، مكانًا أساسيًا للقاء الأخوة الصوفيين في تونس والمغرب العربي، وخاصة الذين يسلكون طريق الشاذلية، التي لها جذور تاريخية عميقة في المدينة نفسها. في نهاية القرن الثاني عشر، استقر هنا رجل يدعى أبو سعيد البادجي، وهو خياط بسيط ينحدر من جبال تونس، لاكتساب المعرفة في مسجد الزيتون. وهنا بدأ طريقه الطويل والصعب نحو المعرفة، التي من أجلها تخلى عن مهنته، حيث تعلم على يد ألمع وارقى الشخصيات الدينية، ليس فقط في شمال إفريقيا، ولكن في جميع أنحاء العالم الإسلامي. بعد تخرجه من تونس، ذهب أبو سعيد إلى مكة والمدينة وثم سلك طريقه الى الشام. بمجرد وصوله إلى المغرب، تلقى أبو سعيد المعرفة من أبو مدين (أشار إليه العالم الشهير الإمام الغزالي في أحد أعماله). يقال أنه خلال سنواته في مكة، كان أبو سعيد محظوظًا لتعرفه على العلامة الشيخ ابن عربي.


عندما أرتقى أبو سعيد إلى مستوى ديني وروحي رفيع ، غادر إلى جبال تونس لنشر المعرفة بين السكان المحليين. يذهب صباح كل يوم وحيدا إلى جبل المنار ليتهجد ويعبد الله سبحانه وتعالى، ثم يتوجه إلى المسجد لإلقاء الدروس للطلاب. كان من بين طلابه أبو مدين، الذي سيكون له علاقات وثيقة في المستقبل مع الإمام أبو حسن الشاذلي، مؤسس طريق الشاذلية. ومن خلال محيط أبو سعيد البادجي ، بناءً على أوامر من أستاذه أبو مدين، اتخذ الامام ابو حسن الخطوات الأولى لأن يصبح عالِماَ دينياَ عظيماَ.
لعب أبو سعيد دورا خاصا خلال فترة غزو القوات المسيحية للبلاد . فرداً على هذا الموقف، تراجع أبو سعيد إلى الجبال البعيدة الواقعة شمال المدينة، وأنشأ رباطاَ (موقعاَ عسكرياَ وروحياَ)، ليراقب من الاعلى الآلاف من السكان، ومن هنا تمكن من تحذير التونسيين من الهجوم الوشيك من قبل قوات الغزو المسيحية وفي الوقت ذاته لم يتخلى عن ادائه للشعائر الدينية الإسلامية.


غادر أبو سعيد الحياة الدنيا في عام 1231 ودُفن في مخفر عسكري أسسه هو بنفسه. بعد ذلك، حمل هذا المكان اسمه، وهو الآن مدينة حديثة يطلق عليها مدينة سيدي بو سعيد. في القرن الثامن عشر، قام محمود باي، حاكم تونس آنذاك ، ببناء الزاوية (مسجد صغير أو مخفر صوفي) ومجمع يمكن رؤيته اليوم، وهناك مكان قبر أبو سعيد. كما بنى محمود باي منزله في الجوار القريب من قبر ابو سعيد.


بناء على الحقيقىة التي تقول ان سيدي أبو سعيد كان مدرساَ للإمام الشاذلي ، فإن الزاوية ، وكذلك المدينة بأكملها، مهمة جدًا لكل من المُريدين ومرشدي طريق الشاذلية . لا يمكن آلا  ترى المقهى الواقع تحت الزاوية بالضبط ، فهو يقع على قمة منحدرة تمتد إلى أعلى التل . من خلال دهاليز الشوارع القديمة المبنية من الطوب، في الجبل، يمكنك رؤية المقهى "العالية"، وهو بعيدًا عن باقي المدينة. من القدم اعتبرت المقهى " العالية" مدخلا للزاوية نفسها. تاريخياً، يدخل الرجال الى المقهى في أجواء ترحيبية  من خلال الدرج، مروراً بعبير القهوة والبخور اللطيفين، بينما يدخلن النساء من الباب الذي يستخدمه الزوار اليوم، وهو يقع مباشرة فوق المقهى ومخفي عن حركة المدينة.


كل مساء خميس، كان المقهى مليئا بالزوار من "الزواية". بعد بناء "الزواية " في عام 1700م تم إضافة المقهى إلى المجمع لإستيعاب جميع القادمين، والذين كان أعدادهم ترتفع من وقت لآخر. مباشرة بعد أن يفتح المقهى أبوابه، يصبح مليئ بزبائنه من السكان المحليين والعديد من السياح. وهذا المقهى أول شيء يرآه الناس عندما يدخلوا المدينة. و ما زالت حول المجمع أماكن راحة العديد من العلماء الآخرين الذين كانوا معاصرين آنذاك ، وأيضاً مكان لتجمع طلاب الإمام أبو سعيد. في الواقع، المقهى كان يوما ما مكانا لعبادة الله سبحانه وتعالى، مكان حيث يجمع الناس ويناقشوا أفكارا نبيلة على فنجان من القهوة.


كما أن مقهى" العالية " هو أحد مواضع ولادة المعلوف التونسي، وهو نسخة لحنية من ملحمة شعبية. هناك كان الشعراء والفلاسفة يتجمعوا مع بعضهم البعض ليتسابقوا في براعتهم في اللغة والخطابات .وحتى القصائد التي تشيد بالخالق الواحد،  كانت تقرأ داخل جدران هذا المقهى، والتي زادت من نعمة هذه الإجتماعات وروحانيتها. وقدم كثير من  الزوار من العاصمة والمناطق المحيطة بها إلى "سيدي أبوسعيد" للهروب من حرارة الصيف الشديدة والتنفس في هواء الجبل النقي. مع عدة أكواب من القهوة الأصيلة، ازدادت المساباقات الشعرية اكثر ضرواة وعمقا، حتى أنها تستمر بشكل حماسي طوال الليالي.


للأسف مع مرور الوقت، هناك أقل وأقل من  "المُريدين - المتعلمين" بين الزوار و المزيد من السياح العاديين الذين يبحثون عن مواقع جميلة على الصور الخاصة بهم ، ولكن ليسوا مهتمون أبدا بالماضي الروحي الغني لهذه الأماكن.لا يزال المقهى يؤدي وظيفته الأولى ، لكنه لم يعد المدخل إلى "الزاوية ، رغم انه لا يزال يقع أعلاه. الآن ، للوصول إلى دار المعرفة، تحتاج إلى أن تسأل السكان المحليين ، وليست حقيقة أنه يمكنك العثور على شخص يشير إلى الدرج الأبيض الضيق الموجود في الزقاق والذي سيؤدي بك إلى الهدف المطلوب ..


بمجرد دخولك إلى المقهى، ستشعر فورا بهالة غير عادية تجذبك، كما لو أن مئات الأوليين حاضرين بشكل خفي بالقرب منك وينتظرون سماع آيات القرآن في مركز المكان، والتي كانت تحدث قبل عقود عديدة. ولكن هذا لا يحدث، يبدو أن غطرسة الماضي قد اختفت في ظلام التاريخ...( كانت الزاوية)،  كانت تجمع عدد لا يحصى من المعلمين والطلاب داخل جدرانها، مخبأة اليوم على قمة التل، أصبحت مهجورة تقريباً، بعد أن غرقت في اللاملعوم  ولكن هناك أمل – لأن المقهى لا يزال  مليئًا بالزوار ، مما يعني أن "الزاوية" التي بناها أبو سعيد وطلابه، لم تفقد في غياهب النسيان، بل أختفت من القسوة في لحظة تاريخية معينة وستعود في الوقت المناسب..