Ru En

بُلغار الفولغا: كيف وصل الإسلام أراضي تتارستان

٢٠ مايو ٢٠٢١

يصادف العام المقبل الذكرى 1100 لاعتماد بُلغار الفولغا الإسلام كدين للدولة. كيف وصل الإسلام إلى هذه الأراضي؟ لماذا انتشر وأصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الشعب التتاري؟ سنقوم بنشر سلسلة من المواد المُخصصة لتاريخ بُلغار الفولغا وانتشار الإسلام في منطقة الفولغا بشكل عام.

 


    ابن فضلان وخان المُش


   عام 922 - هو العام الذي وطأت فيه أقدام بعثة ابن فضلان أراضي بُلغار الفولغا، عندما كان في ذلك الوقت خان المُش ملكا وحاكما للدولة والذي قبل رعاياه بعد ذلك بالإسلام كديانة لدولتهم ولشعبهم وحيدة لاغيرها. ومن ذلك التاريخ ستبدأ صفحة جديدة في تاريخ منطقة الفولغا وانتشار العقيدة الإسلامية هنا.


يوم 21 أيار/ مايو من عام 922 سُجل وإلى الأبد في تاريخ ليس فقط شعب التتار، ولكن أيضًا في منطقة الفولغا بأكملها، ليصبح نقطة إنطلاق لإنتشار الإسلام في الأراضي المجاورة وأندماجه إلى الأبد مع ثقافة الشعوب المحلية وأصبح جزءا لا يتجزأ منها.


على الرغم من المهمة الانسانية لابن فضلان إن لم تكن الرئيسية له الا انها لعبت دورا حاسما في انتشار الإسلام على أراضي منطقة الفولغا، ولا يمكن مقارنة هذا الدور والمعلومات عنه بثمن.


أحمد بن العباس بن فضلان رحالة ومبشر عربي زار ضفاف نهر الفولغا عام 921-922. وترك ملاحظاته وإنطباعتاته في كتابه الشهير "رسالة ابن فضلان "حول رحلته الجديدة والمثيرة للاهتمام . من المعروف أنه كان كاتبًا كبيرًا ، تحت رعاية القائد العسكري محمد بن سليمان، الذي غزا مصر في 904- 905 بأمر الخليفة العباسي في بغداد.


كل هذه المعلومات عن هذا الرحالة والكاتب موثوقة جدا، الذي لم يأت فقط ليخبر سكان بُلغار الفولغا عن الإسلام ويكون شاهدا على تبنيهم الإسلام دين للدولة ولهم، بل ونقل للعالم العربي ثقافة وتاريخ أسلافنا.

 


الرحالة العربي و "الدولة السلافية"


دعنا نعود إلى العام البعيد 921 ، عندما غادرت من بغداد (التي كانت تعتبر بحق عاصمة العالم) ، بناءً على تعليمات من الخليفة العباسي المقتدر بالله، البعثة الدينية والسياسية إلى وسط آسيا في مهمة تعليمية. وتألفت المجموعة التي حددت مسارها عبر بُلغار الفولغا، من شخصيات مختلفة، في مجالات الفقه والسياسة والتاريخ، ترأسها أحمد بن فضلان الذي يعتبر أول رحالة عربي لروسيا. أصبحت هذه الرحلة خطوة كبرى في تعزيز الروابط الدينية والثقافية والتاريخية بين الشعبين، العربي والتتاري مستقبلا.


كان يرأس البعثة رسمياً خصي الخليفة سوسن الرسي، لكن ابن فضلان هو الذي أُمر بأن يصبح سكرتيرا للبعثة، وهذا يعطي معنى عن مكانته الرفيعة وهيبته المعنوية. وكانت على عاتق السكرتير تقع كل الأعمال المهة وكذا تحمل المسؤولية عن تسيير شؤون البعثة بأكملها.


عندما وصل ابن فضلان إلى بُلغار الفولغا ولقائه بملكها، قرأ له رسالة الخليفة وقدم الهدايا له وللمقربين منه وحدثه عن جوهرالإسلام وروعته وبساطته.


غادرت البعثة مدينة بغداد في 21 حزيران/ يونيو 921 ، وكان طريقها يمر عبر ري ونيسابور إلى بخارى، ومن هناك عبر نهر أمو داريا، ثم الى الجنوب عبر النهر إلى عاصمة الخوارزم، كياس. ثم  جرجاني حتى اكتملت الرحلة في يومها السبعين شمالًا إلى ضفاف نهر الفولغا. في 12 أيار/ مايو 922 ، وصلت البعثة إلى "بلاد السلافين"، حيث تقع دولة بُلغارالفولغا.


عندما بقت من المسافة إلى النقطة الأخيرة للقافلة رحلة يوم واحد، كان في انتظار البعثة أربعة أمراء تابعين للحاكم  المُش بالإضافة إلى إخوته وأبنائه. يكتب ابن فضلان: "لقد قابلونا حاملين بأيديهم الخبز واللحم والدخن ورافقونا حتى استقبلنا الملك بنفسه على مسافة 12 كيلومترا من قصره ولما رآنا نزل من على حصانه وسجد على وجهه شاكرًا لله العلي العظيم".


قبل قراءة الرسالة ذاتها، والتي كانت الهدف الرئيسي لرحلة البعثة الطويلة المرهقة والمليئة بالمخاطر، تم رفع رايتين كانتا بحوزتهم وحصان كهدية للملك . أُلبس الملك ألمش ملابس سوداء من نوعية تلك التي ترتديها أعلى الشخصيات في بلاط الخليفة، حاكم المؤمنين، ووضعت العمامة على رأسه. بعد ذلك، أخرج ابن فضلان، بكونه كان مسؤولاً عن المراسم، خطاب الخليفة وبدأ في تلاوته و"ترجم المترجم الرسالة حرفًا حرفًا. عندما انتهى من القراءة، هتفنا بالإجماع الله اكبر.هذه الصرخة التي ارتعدت منها الأرض "- هكذا وبهذه العبارة ترك ابن فضلان إنطباعه حول تلك اللحظة.


منذ ذلك اليوم، اعتنقت بُلغار الفولغا بكل سكانها الإسلام وأصبح دينا رسميا للدولة، وبالتالي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العالم الإسلامي. ومن هنا، من هذه الأرض، بدأت العقيدة الإسلامية تنتشر في جميع أنحاء إقليم الفولغا، واندمجت اندماجا تاما مع ثقافة وتقاليد العديد من الشعوب المحلية.

 


"المذكرات " التي أطلع عليها العالم عن شعوب منطقة الفولغا


عندما عاد إلى مسقط رأسه بغداد، أعتكف الرحالة أحمد بن فضلان على الفور لكتابة مذكراته (الرسالة)، والتي تم تجميعها في شكل ملاحظات عن السفر وسرعان ما أصبحت واحدة من أهم المصادر في تاريخ العصور الوسطى لمنطقة الفولغا وحوضها ووسط آسيا. الجزء الأخير من "المذكرات"، للأسف لم يُحفظ حتى عصرنا، لذلك يمكننا فقط رسم طريق عودة ابن فضلان في مخيلتنا وطرح نظريات وافتراضات مختلفة.


حاول الرحالة في عمله أن يصف بالتفصيل كل ما تمكن من اكتشافه وما رآه بمجرد أن أصبح حصانه خارج بغداد وحتى أُغلقت أبواب منزله. من بين التقارير الجغرافية والتاريخية، يمكن للمرء أن يجد الحكايات الأسطورية الشمالية، بما في ذلك تلك التي تدور حول السمكة الضخمة.


كما يشير المؤرخون وعلماء الإثنوغرافيا حول "المذكرات والملاحظات" بان لها أثر حيوي في الأدب الجغرافي العربي وهي عنصر مميز ومتكامل للثقافة العربية الإسلامية. كماعكس ابن فضلانفي مذكراته تاريخ الناس العاديين وحياتهم وثقافتهم وحياتهم اليومية ومعتقداتهم. وفي الوقت نفسه، لم يترك في مذكراته أي معلومات عن نفسه ولو مثقال ذرة .

 

كان ابن فضلان هو أول من وصف حياة مسار أحد طرق التجارة، التي كانت تعتبر بمثابة القناة الرئيسية لنشر ثقافة وعادات الشعوب المختلفة و رمزًا لوحدة الشرق والغرب. من حيث المذكرات الإثنوغرافية حول وصف القبائل والشعوب التي عاشت قبل ألف عام على أراضي روسيا تعتبر مذكراته مهمة لا غنى عنها ولا مثيل لها. يمكننا القول أن ابن فضلان كان مكتشفًا أدبيًا للأراضي التي زارها التجار المسلمين سابقا والتي ظلت غير معروفة بشكل عام للجغرافيا العربية حتى القرن العاشر.


اليوم، بالنسبة لنا جميعا وللخبراء في مختلف المجالات، تعد المذكرات " الرسالة" من أهم المصادر عن تاريخ شعوب منطقة الفولغا ومنطقة عبر الفولغا وآسيا الوسطى في القرون الوسطى. لم يكن ابن فضلان، بالطبع، فاتحا، لكنه أصبح أول رحالة في العالم بأسره، الذي وثائقه ومعلوماته المتنوعة عن مناطق بحر قزوين الشمالية ومنطقة عبر الفولغا محفوضة إلى يومنا هذا. ابن فضلان هو الذي أعطى أول قائمة صحيحة بأسماء الأنهار التي تعبرُ الأراضي المنخفضة لبحر قزوين. ولكل هذه الأنهار يعطي ابن فضلان أسماء تتطابق أو تشابه مع التسميات الحالية.


للأسف الشديد، النص الأصلي للكتاب فُقد. لكن وصلتنا الأجزاء المتوفرة في "المعجم الجغرافي" للموسوعة العربية ياقوت الرومي في القرن الثالث عشر. في هذا النموذج ، نُشر العمل لأول مرة عام 1823 بواسطة الأكاديمي الروسي فرين باللغة الألمانية. تم اكتشاف القائمة الوحيدة المعروفة من "المذكرات " من قبل المستشرق أحمد زكي وليدوف في عام 1923 في مكتبة ضريح الإمام علي بن رضى في مشهد بإيران.


في عام 1937 ، أهدت الحكومة الإيرانية صورة من الوثيقة لأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. على أساسها تم عمل ترجمة للنصب التذكاري، المنشور في عام 1939 تحت إشراف تحرير إ. كراتشكوفسكي. في نفس العام ، ظهرت الترجمة الألمانية للمترجم أ.ز.  توجان. أما الطبعة الثانية المنقحة من ترجمة كوفاليفسكي ظهرت للنور في عام 1956.

 


إلميرا جافياتولينا