Ru En

هجرة الروس إلى أمريكا وأوروبا.. وتونس

١٤ نوفمبر ٢٠١٩

الحرب العالمية الأولى، الثورة الروسية الأولى عام 1905 وكذلك ثورة أكتوبر 1917، كل هذه كانت عوامل أثرت تأثيراً كبيراً على بلورة حركة التحرير الوطني في تونس، التي بدأت تتشكل في نهاية القرن الـ 19. وفي هذا الصدد يكتب المؤرخ التونسي علي محجوبي أن الثورة البلشفية ألهمت الشباب التونسي، وشجعته على النضال بقوة أكبر "في سبيل حريته والانعتاق من نير الاستبعاد الفرنسي".

وتجدر الإشارة إلى أن الثورة البلشفية دفعت العديد من الروس إلى الهجرة من بلادهم. وعلى الرغم من أن وجهة هؤلاء الأولى كانت أوروبا وأمريكا، إلا أن الآلاف منهم قصدوا تونس عبر بوابتها.. ميناء بنزرت.

فقد حملت عشرات السفن 6 آلاف مهاجر روسي - من ضباط وجنود البحرية وأفراد أسرهم - انطلقوا من شبه جزيرة القرم  إلى بنزرت، التي يُطلق عيها اسم بندقية افريقيا. عاش القادمون الجدد نصف عام على متن السفن، وكانوا يجتمعون على ظهر سفينة القديس جرجس للقيام بطقوس العبادة والصلاة.

وظل الحال على ما هو عليه حتى مطلع صيف 1921، حين سمحت لهم السلطات المحلية بالنزول إلى الأرض التونسية. حينها بنى المهجرون الروس الأوائل كنيسة تحمل اسم القديس - القائد العسكري الروسي - ألكسندر نيفسكي. وفي بنزرت متحف يوثّق معالم الهجرة الروسية إلى البلاد التونسية.

التواصل الثقافي بين روسيا وتونس، نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20، كان متعدد الأوجه، حتى أن تونس كانت بالنسبة لروسيا، إلى حد، ما نموذجاً لتحديد العلاقة بين الدولة المهيمنة والأقاليم التابعة لها إدارياً. وقد استنسخت روسيا التجربة التونسية في علاقاتها مع الأراضي والأسواق الحديثة الخاضعة لسيطرتها.. في آسيا الوسطى والقوقاز.

وفي هذا السياق باتت تونس محط اهتمام الكثير من ممثلي الأوساط العلمية والأكاديمية في روسيا، ممن دفعهم الفضول للسفر إلى هذا البلد للاطلاع على تجربته، فتحولت تونس إلى وُجهة الاقتصاديين والمهندسين، بما في ذلك في المجال الزراعي، والجيولوجيين، والمتخصصين باستصلاح الأراضي القاحلة، وعلماء التربة وحتى الخبراء في علم الحيوان.

أما المهتمون بالعلوم الإنسانية فقد أبدوا اهتماماً كبيراً بنتاج الأبحاث التي أشرف عليها زملاؤهم الفرنسيون في علم الآثار، والوضع القائم  للدين الإسلامي في حينه وتعاليمه.

لم يقتصر اهتمام طبقة المثقفين الروس بتونس على العلماء فحسب، إذ تحولت تونس إلى مزار للمبدعين، كالفنانين التشكيليين والأدباء، بالإضافة إلى السياح، الذين جذبتهم هذه البلاد بسحرها وألهمتهم لإبداع أعمال فنية رفيعة المستوى. وانعكست العلاقات الاجتماعية الطيبة بين الشعبين في روسيا وتونس على طبيعة العلاقات الرسمية، في المجالين الاقتصادي والسياسي.

وعند الحديث عن الجالية الروسية في تونس، فمن الطبيعي أن يُذكر اسم عميدة هذه الجالية أناستاسيا شيرينسكايا التي رحلت عن عالمنا في 2010 عن عمر 97 عاماً، عاشت حوالي 90 منها في بنزرت. تّعد السيدة شيرينسكايا - مانشتاين المعمّرة الروسية الأطول عمراً  بين المعمّرين الروس الذين عاشوا خارج وطنهم.. إذ وُلدت في روسيا عام 1912.

وصلت "ناستيا" الصغيرة إلى تونس في سن الثامنة مع أسرتها، علماً أن والدها ألكسندر مانشتاين كان في حينه قائد مدمرة كانت ضمن "الأسطول" الموالي للقيصر الذي وصل إلى الشواطئ التونسية عام 1920.

وقد عملت أناستاسيا شيرينسكايا في السلك التعليمي حيث كانت تدرّس الرياضيات في مدينة إقامتها بنزرت، وق تتلمذ على يدها عدد كبير من المسؤولين ومن كبار رجال الأعمال في بلادها الجديدة، على الرغم من أنها كانت ترفض قبول الجنسية التونسية التي عُرضت عليها أكثر من مرة، لتحصل عام 1997 على جنسية بلادها الأصل روسيا، التي زارتها أول مرة عام 1999.

وقد نالت شيرينسكايا أوسمة تكريم رفيعة روسية وتونسية - فضلاً عن إطلاق اسمها على أحد ميادين بنزرت الرئيسة - بصفتها قاسماً مشتركاً بين ثقافتي البلدين، ولحرصها على التعريف بتقاليد البحرية الروسية في تونس والحفاظ عليها، ورعاية كنائس ومقابر البحارة واللاجئين الروس الذين فارقوا الحياة بعيداً عن وطنهم.