Ru En

فيرشياغين - يؤنسن المقدس ويثير غضب الكنيسة

١٣ سبتمبر ٢٠١٩

يعد الرسام الروسي فاسيلي فيريشاغنين بمثابة مراسل عسكري وثّق الحملات والحروب بريشته، مخلداً ذكراه بلوحات يعرفها كثيرون ولكن، ربما، دون أن يعرفوا اسم مبدعها. وقد خلّفت تلك الحروب، التي صوّر الفنان معاناة ضحاياها بحسّه المرهف، أثراً كبيراً في نفسه، فقرر أن يكرّس موهبته لرصد ثقافات الشعوب وأنماط حياتها لا للحروب التي تخوضها بإرادتها أو رغماً عنها.

 

انتقل فيريشاغين إلى مدينة ميونخ للعيش فيها عام 1871، وفي العام ذاته تعرف إلى إليزابيت فيشير-ريد التي عقد قرانه عليها في العام ذاته، لتشاركه حياته طوال 19 عاما. عاش فيريشاغين وزوجته في ميونخ حتى عام 1874، لينتقلا بعد ذلك إلى باريس حيث باشر العمل على سلسلة لوحاته المكرّسة للهند.

 

فيرشياغين - يؤنسن المقدس ويثير غضب الكنيسة

"العائلة المقدسة" فاسيلي فيريشاغنين / Public Domain

 

في عام 1876، وفي أثناء عمله على هذه السلسلة، بلغت الفنان أخبار عن الحملة العسكرية الروسية في البلقان، فغادر باريس بعد عام ليلتحق بالحملة وظل في قوام الجيش الروسي حتى انتهائها بانتصار روسيا على الدولة العثمانية في 1878.

 

واصل فيريشاغين رسم لوحات تصوّر الملاحم العسكرية التي شاركت بها روسيا، فكانت الحرب الأخيرة بمثابة الضربة القاضية بالنسبة للفنان، ونقطة تحول محورية في إبداعاته.

 

فقد بذل فاسيلي فيريشاغين جهداً شاقاً لإنجاز سلسلة الأعمال البلقانية، ما أثّر فيه كثيراً نفسياً وجسدياً، فقرر الابتعاد قدر المستطاع عن رسم لوحات الحرب حتى أنه أعلن في عام 1882: "لن أرسم بعد الآن لوحات الحروب. إنها تترك أثراً عميقاً في روحي حتى أنني أبكي، بالمعنى الحرفي، حسرة على كل جريح أو قتيل".

 

فيرشياغين - يؤنسن المقدس ويثير غضب الكنيسة

"قيام المسيح" فاسيلي فيريشاغنين / Public Domain

 


قرر فيريشاغين مطلع 1884السفر برفقة زوجته إلى الشرق العربي، وذلك بغية استعادة توازنه الروحي وصفاءه الذهني، وعلّه يحظى بانطباعات غير مألوفة تلهمه أفكاراً للوحات جديدة. وقد أثار تنقله في الأراضي المقدسة، في فلسطين وسوريا، اهتماماً علمياً ومعرفياً، ما دفعه إلى التعمّق أكثر في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، ما مهّد إلى رسم لوحات تحاكي مسرح الأحداث التوراتية والإنجيلية.

 


اطّلع الرسام الروسي على مُنتج المؤرخ الفرنسي إرنست رينان "حياة يسوع" الصادرة في 1863، التي دعا المؤرخ من خلالها إلى الفصل بين التاريخي والأسطوري في سيرة المسيح الذاتية، وهو ما وضعه في مواجهة مع الكنيسة الكاثوليكية، ليترك هذا العمل كبير الأثر في نفسه حتى أنه قرر تناول حياة المسيح بالتركيز أكثر على ملامح حياته الناسوتية لا اللاهوتية.. كمبشّر بعقيدة جديدة.

 

رسم فيريشاغين مجموعة من اللوحات التي تجسّد يسوع المسيح بعيداً عن هالة القدسية المحيطة به، مشدداً من خلالها على القيم الانسانية السامية التي نادى بها المسيح، في محاولة صادقة من الفنان لرصد "الرواية المقدسة عبر الحقيقة الدنيوية".

 

قناعة فيريشاغين الشخصية المطلقة بأنه على الطريق الصواب في تلقيه الرواية الإنجيلية، واستقلاليته التامة في طروحاته لم تسمح له الخضوع إلى قواعد الآخرين الأخلاقية. لذا لم يكن يقرّ بالطقوس الكنسية في الكنيسة الأرثوذكسية، رافضاً ما اعتبره رياءً وتديناً مزيفاً، كما أنه لم يعترف بمسيحية من يزهق أرواح الآخرين ثم يكتب.. أبجّل المسيح ولكنني لا أتبع خطواته إلا قليلا.

 

فيرشياغين - يؤنسن المقدس ويثير غضب الكنيسة

 فاسيلي فيريشاغنين / Public Domain

 

تمت مواجهة سلسلة الأعمال الفنية هذه بالحظر من قِبل الكنيسة في أوروبا، وكذلك لم يكن يُسمح بعرضها دائماً في روسيا. ورداً على سعي حثيث من جانب رجال الكنيسة في أوروبا بمنع عرض بعض من لوحات الفنان الروسي، الذي نُعت بالتجديف، سيّما لوحتيّ "العائلة المقدسة" و"قيام المسيح"، انطلاقاً من أنهما "تطعنان في صميم العقيدة المسيحية"، حتى أن بعض من لوحاته تعرض للإتلاف على يد معارضيه، نشر فاسيلي فيريشاغين رسالة وضّح فيها رؤيته لأحداث الكتاب المقدس، داعياً إلى عقد المجمع المسكوني لحل الإشكالات المثيرة للجدل.

 

كما كتب فيريشاغين مقالاً بعنوان "الواقعية"، عبر فيه عن آرائه بقوله إن.. "الواقعية لا تُعد خصماً لشيء قيّم مما يؤمن به الانسان المعاصر، إذ أنها لا تتعارض لا مع الحس السليم أو العلم أو الدين. لقد أثارت لوحاتي المستوحاة من القصص الإنجيلي تعليقات معادية. ولكن هل تطرقتُ إلى ثوابت المسيحية وأخلاقياتها؟ لا. إنني أثمنها عالياً. هل هاجمتُ الفكر المسيحي أو مؤسسه؟ لا لأنني أكن له احتراماً عظيماً. هل حاولتُ الحط من قدر الصليب؟ لا، فإن ذلك من أبعد المستحيلات".

 

رسم فاسيلي فيريشاغين لوحات رصدت حياة الناس، البسطاء من الناس، على كافة انتماءاتهم المجتمعية في كل البلدان التي زارها، مركزاً في لوحاته على العنصر الثقافي والديني في آسيا الوسطى والهند والقوقاز وكل روسيا والبلقان. وأمريكا والفليبين وكوبا واليابان، بالإضافة إلى سوريا وفلسطين.

 

رسم فيريشاغين قرابة 500 لوحة عن الأراضي المقدسة، دون سعي منه لإظهارها على نحو مغاير لما هي عليه، فجاءت ريشته لتوثّق طبيعة هذه الأرض كما بدت له. كما رسم المصلين والمتعبدين من العرب، واليهود أمام حائط المبكى، وكذلك الحجاج والنُسّاك القادمين من مختلف أصقاع الأرض بما في ذلك من روسيا، التي لم تتقبل نخبتها الدينية لوحاته في بادئ الأمر، على الرغم من اتساع رقعة الراغبين بمشاهدتها وبالتعرف عليها. منذ ذلك الحين وحتى الآن.