في 23 من تشرين الأول أكتوبر من العام 2019، جرت مراسم تنصيب الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد، الفائز في الانتخابات الثانية التي شهدت منافسة حرة في تاريخ البلاد. اذ حصل على 72,71% من الأصوات في الدور الثاني الذي جرى في 13 من نفس الشهر، وكانت نتيجته مقنعة أكثر في الدور الثاني من الدور الأول الذي جرى في ال 15 من أيلول سبتمر حين حصل على 18,4% من أصوات الناخبين الذين توجهوا إلى مراكز الاقتراع. الفوز الحاسم لمرشح مستقل لم يشغل أي مناصب في منظومة الحكم سابقا وبدون أي خبرة في السياسة وغير مرتبط بأي قوة سياسية في تونس كان مفاجأة للمراقبين، ولكنها في نفس الوقت متوقعة وتخضع لقواعد الحياة السياسية التي بدأت تتطور في هذه الدولة الواقعة شمال إفريقيا منذ العام 2011.
الإنتخابات الرئاسية لعام 2019 جذبت اهتمام الكثيرين في تونس وخارجها، وهذا أمر يحسب لها علما أنه حسب مبادىء دستور 2014، تم اختزال جزء ملحوظ من صلاحيات الشخص الأول، وقد فقد كرسي قصر قرطاج بحد ذاته الكثر من بريقه السابق. وما احتفظ من يجلس في القصر إلا بمهمة القائد الأعلى للقوات المسلحة وبإدارة مجلس الأمن القومي. الرئيس التونسي يتقاسم وفقا للدستور صلاحيات إدارة الدولة مع رئيس الوزراء والحكومة، خاصة في تلك المسائل التي تتعلق بشكل مباشر بالسياسة الداخلية والاقتصاد والقضايا الإجتماعية. تمكن الرئيس الراحل الباجي القائد السبسي والذي شغل منصب الرئيس منذ العام 2014، وبفضل حنكته وخبرته السياسية الغنية خلال خمس سنوات أن يحافظ على التوازن بين الأحزاب السياسية والقوى البيروقراطية والنقابات، ولكنه لم يتمكن حتى من الاقتراب من الحلول الجذرية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي التي كانت تثير حفيظة الناس. وبعد رحيله، الأمر الذي دعا إلى تنظيم انتخابات مبكرة، ازدادت المخاوف في المجتمع التونسي، من أن الرئيس الجديد سيكون كسلفه عاجزا عن القيام بإصلاحات جذرية، تتطلب قرارات اقتصادية قد لا تحظى بشعبية في المجتمع، هذا إن كان من طبقة الساسة المتمرسين، الذين يحبذون استراتيجية التوازن وتجنب الخطوات غير الشعبية، إن لم تكن هذه استرايجيتهم الوحيدة.
هذه المخاوف بالذات، بالإضافة إلى غياب الشعبية لدى الساسة المتمرسين، عاملان حددا نتيجة الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية على حد سواء في خريف العام 2019. في كلا الأمرين كان واضحا فشل الأحزاب والقوى السياسية المعروفة، والتي لمع نجمها في الفترة ما بين 2011 و 2014. بعد أن قييم الناخب التونسي مكتسبات الحوار الوطني، الذي جنب البلاد الفراغ السياسي والحرب الأهلية، والذي قام بجزاء سياسة الدولة غير الفعالة أبدا في المجال الاقتصادي، وكان رد المواطن على هذه السياسات غير الفاعلة هو ازدياد شعبية الوجوه الجديدة وفوز الشعبوية.
نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت في 6 تشرين أول أكتوبر، كانت فقدان حزب النهضة الكثير، اذ فقد 17 عشر مقعدا مقارنة بما حصل عليه في انتخابات سنة 2014، وهذا رغم ولاء ناخبيه وسياسته المرنة في الجهات أثناء معركته الانتخابية إلى البرلمان. من جهة أخرى، الأحزاب والقوى المنافسة للنهضة أظهرت تشتتا في صفوفها: وبدل الإئتلاف الذي تمكن سابقا من لجم التأثير المتنامي ل «النهضة»، وإجبارها على تنازلات وتعاون، دخل في تشكيل البرلمان الجديد طيف من الأحزاب المتفرقة القديمة والجديدة التي حصلت من مقعد واحد وإلى 22 مقعد. وقد جاء في المرتبة الثانية بعد النهضة «52 مقعدا» الحزب الجديد «قلب تونس» (38مقعدا)، وهو حزب المرشح الخاسر نبيل القروي، والذي تمكن من سحب جزء من أصوات أكبر الأحزاب الإسلامية. ومن الأحزاب العشرين التي دخلت البرلمان: 8 أحزاب جديدة حصلت على 217 مقعدا، و4 أحزاب أخرى ليست جديدة ولكنها تدخل البرلمان لأول مرة حصلت على 24 مقعد، وحزبان اثنان كان لكل منهما في الدورة السابقة للبرلمان ثلاث مقاعد، حصلا في هذه الدورة على 16 و 22 مقعدا. كما دخل البرلمان 12 نائبا مستقلا. أي أن الساسة الجدد حصلوا على أكثر من نصف مقاعد البرلمان، هكذا عبر الناخب التونسي عن عدم رضاه من التشكيلة الثنائية السائدة سابقا - الإسلاميون والعلمانيون.
نتائج الدورة الأولى من الإنتخابات الرئاسية أظهرت تقدم مرشحين من خارج المنظومة، متقدمين بفارق كبير على مرشحي النهضة وممثلي الأحزاب والقوى المعارضة لها. منافس قيس سعيد في الدور الثاني كان رجل الأعمال نبيل القروي. ويربط المتابعون نجاحه ليس بصفته من أثرياء البلد، بل ولأن رمز «المناضل» استخدم بشكل كبير أثناء حملته الإنتخابية، بعد أن دخل السجن وأصبح معتقلا سياسيا بسبب أزمته مع رجال «النهضة» في الحكومة. رغم ذلك، وبعد أن وصل إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية تكبد خسارة فادحة، إذ أنه في نظر المجتمع يتبع إلى النخبة ولو لم يكن سياسيا متمرسا، والنخب تشارك في لعبة السياسة الكبرى بدل أن تعمل على حل المشاكل الإجتماعية.
نجاح قيس سعيد كان لأنه ليس سياسيا، بل إنه موظف - أستاذ جامعي، كرس حياته للتعليم وعاش على المعاش الشهري، وهو شعبوي، ارتقى فوق «المعركة» التي تخوضها الأحزاب التقليدية، واقترح ما هو جديد من حيث المبدأ مستندا إلى ما هو معروف واعتاد عليه الناس. والشعبوية كما هو في حال غريللو وصعود حركة النجوم الخمسة في إيطاليا سنة 2009، هي تلبية للطلب الموجود في المجتمع على تغيير جذري للنخب وتحريك الركود السائد الحياة السياسية.
على الرغم من نجاح التغييرات السياسة في السنوات الأخيرة على المستوى الدولي (بما في ذلك منح جائزة نوبل للسلام لرباعية الحوار الوطني التونسية سنة 2015)، وعلى الرغم من أن التجربة التونسية باتت مثالا يحتذى به للعديد من الدول العربية في المنطقة، يبدو جليا أن الناخب التونسي قد تعب من حتمية الاختيار المستمر بين الإسلاميين والعلمانيين، بين الدين والعلمانية، بدل أن يختار طريقة حل المعضلات الملحة في أجندة البلاد. هذا الاستقطاب القسري للفضاء السياسي والمجتمع بشكل عام، والذي أصبح أمرا طبيعيا وجزءا لا يتجزء من حياة الساسة المتمرسين في تونس بعد «الربيع العربي»، وقف في طريق النقاش وحل مسائل الإدارة والتطور الاقتصادي.
ولذلك اعتمد قيس سعيد في برنامجه الانتخابي على حل مشاكل عدم فاعلية المجال السياسي. إن النظام السياسي الموجود في تونس يتميز بضعف المنظومة الحزبية والازدياد الهائل لتأثير النقابات، ما يجعل اتخاذ القرارات غير الشعبية ولكن الضرورية للغاية في نفس الوقت من قبل البرلمان والحكومة أمرا مستحيلا. وقد اقترح الرئيس الجديد حل هذه المشكلة عبر تطوير الروابط الأفقية وأدوات الديمقراطية المباشرة، كي لا يخوض المعارك مع المنظومة القائمة للعلاقات بين الأحزاب والتصدعات الأيديولوجية الموجودة بداخلها، بل يتجاوزها. من جهة، الحديث عن الديمقراطية المباشرة يقلق للعبض، إذ أنها تعيد إلى الأذهان خبرة البناء السياسي في ليبيا المجاورة في ظل قيادة معمر القذافي، الذي لجأ لمبدأ القيادة الذاتية بين الجماهير، ومن جهة أخرى يلهم البعض الآخر، حيث أن هذا الشعار قد رفع على راية ثورة عام 2011 ولقي صدى في المجتمع المتعب من الأوتوقراطية وسيطرة الدولة والفساد.
من العناصر المهمة في برنامج قيس سعيد هو عودة الخطاب السياسي للمشهد العربي وقضاياه. مقابل التمحور أو الإنغلاق على الأجندة التونسية التي أصبحت الحديث الوحيد في فترة ما بعد الثورة، المرشح والرئيس الجديد فيما بعد أعاد إلى الذاكرة القضية الفلسطينية والتضامن العربي. ومن الواضح أن هذا أكثر من حنين للماضي، إنه محاولة لإعادة إهتمام المجتمع بالعلاقات العربية - العربية ولفت الإنتباه إلى التحديات والفرص الكثيرة في السياسة الخارجية، التي لا يمكن لتونس أن تتجاهلها. كل هذا يأتي هلى خلفية اللغة العربية الفصيحة التي استخدمها قيس سعيد في حملته الانتخابية في تونس، حيث نرى فيها انبعاثا أو ولادة جديدة للهوية العربية، كتلك التي نراها في العراق الذي دمرته الحرب، وتلك الموجودة في دولة الإمارات العربية المتحدة المزدهرة، وتلك التي في المملكة العربية السعودية التي تعيش الإصلاحات. إن «العروبة الجديدة» اليافعة والتي تتشكل الآن تبدأ بالظهور في الفضاء السياسي لدول المنطقة وتعلن عن نفسها في السعي إلى تجاوز الفرقة في إرث الربيع العربي، بما في ذلك الفرقة الناتجة عن المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، وعن التمحور حول الشؤون الداخلية على حساب الإقليمية وما إلى ذلك. و «العروبة الجديدة» ليست ولادة جديدة للوحدة القومية العربية، ولا تشكك في سيادة كل دولة عربية على حدا وطريقها الفريد في التطور، وإنما على العكس تشدد على أن طريق كل دولة فريد.
الإنتخابات في تونس بينت استعداد شعب هذه الدولة للتغير والبحث عن ظروف ومستوى معيشي يليق به، وهذه الطموحات هي أهم النقاط والأهداف لتطور جميع الدول العربية في الفترة المعاصرة بمعزل عن الخلافات والأزمات الأيديولوجية والدينية.
غ.ف. لوكيانوف