منذ استقلال لبنان عام 1943، كان ضعفه الرئيسي يتمثل في نظامه الطائفي الراسخ تاريخياً، والذي فرضته القوى الأوروبية في البداية. وبتقسيمه السلطة على أسس دينية، حل هذا النظام محل الهوية الوطنية المشتركة، مما أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة، واندلاع حرب أهلية، وأزمة سياسية مستمرة، والتعرض للتهديدات الخارجية. ويتفاقم الوضع بسبب الاقتصاد الليبرالي، الذي زاد من التفاوت الاجتماعي، وأدى، من بين أمور أخرى، إلى تراجع وتفتت المجال الإعلامي.
اشتهر وتميز لبنان سابقاً بحصة الفرد الواحد لأكبر عدد من الصحف الخاصة في العالم العربي. ورغم أن أزمة الإعلام المطبوع العالمية لم تنجُ منه الجمهورية، مما أدى إلى إغلاق العديد من المطبوعات (على سبيل المثال، توقفت صحيفة "السفير" الشهيرة عن الصدور عام 2016 بعد 42 عاماً)، إلا أن أكشاك بيع الصحف في بيروت لا تزال تقدم تشكيلة واسعة. ومن أبرز الجهات الفاعلة في هذا السوق صحيفة " النهار"، إحدى أقدم الصحف وأكثرها نفوذاً ذات التوجه الليبرالي ، وصحيفة "الأخبار"، المعروفة بتحقيقاتها الجريئة في المواضيع المحرمة والتي غالباً ما تُتهم بأنها بوق لحزب الله، وصحيفة "البلد"، وهي صحيفة تجارية مشهورة بحملاتها المثيرة والعدوانية؛ وكذلك صحيفة "المستقبل" الموالية للحكومة.
كما أن المشهد التلفزيوني في لبنان مُسيّس إلى حد كبير. فبدلاً من وسائل الإعلام المحايدة، ترتبط القنوات التلفزيونية الرئيسية ارتباطاً مباشراً بمختلف القوى والطوائف الدينية في البلاد. أما القنوات الموالية للغرب والتي تمثل الأغلبية البرلمانية فهي "إل بي سي" وشبكة الكابلات والأقمار الصناعية الأمريكية، التي يمتلكها السياسي المسيحي إلياس المر ، كما تضم إمبراطوريته الإعلامية أيضاً صحيفة الجمهورية والقنوات المذكورة دعمت احتجاجات عام 2019. وتشمل القنوات الموالية لإيران والمعارضة قناة "المنار"، المعروفة بخطابها القاسي المناهض لإسرائيل والولايات المتحدة؛ وكذلك قناة "الميادين" والشبكة الوطنية للإذاعة، وتلفزيون "أورانج". وتشمل القنوات المهمة الأخرى قناة "الجديد"، المعروفة بنهجها الشعبوي وتقاريرها الاستقصائية عن أصحاب السلطة، وقناة "تيلي لوميير"، وهي قناة دينية وتعليمية مملوكة للكنيسة المارونية.
كما هو الحال مع القنوات التلفزيونية، تُعدّ جميع محطات الإذاعة الرئيسية تقريبًا قنواتٍ لقوى سياسية أو دينية مُحددة، مما يعكس الانقسامات داخل المجتمع اللبناني. تُحاكي معظم المواقع الإلكترونية تحيزات "آبائها" التقليديين، في حين أن البنية التحتية نفسها مُتخلفة. تحظى وسائل التواصل الاجتماعي (المملوكة لشركة ميتا، المحظورة في روسيا والمُعتبرة متطرفة) بشعبية كبيرة بين الشباب. ظهرت منصات مستقلة مثل ميغافون نيوز وثورة تي في في أعقاب احتجاجات عام 2019.
الهدف الرئيسي لهذه المنافذ الإعلامية البديلة هو الاستقلالية وانتقاد النظام السياسي اللبناني بأكمله، بدلاً من انتقاد الأحزاب الفردية. ومع ذلك، تُجبرها الأزمة الاقتصادية على طلب التمويل من المانحين الدوليين، مما يجعلها عُرضة لاتهامات التحيز. في الوقت نفسه، يتشكل الرأي العام أيضاً في بيئة مُختلطة: تُمثل نُخب الإعلام التقليدي والمشاهير والنشطاء والمؤثرون الرقميون أصواتاً جديدة ذات وجهات نظر مُتنوعة.
على الرغم من هذه الاتجاهات، لا تزال الصحف اللبنانية الرائدة تلعب دورًا في تشكيل الرأي العام. اعتبر الإعلام اللبناني تصاعد الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتصعيد على طول الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، تهديداً بحرب جديدة. ورغم التشرذم، لجأ الإعلام إلى ذاكرة تاريخية مشتركة، كما يتضح في دراسة "فهم الصدمة في الإعلام ووسائل الإعلام" للباحثة يانا حرب من معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية.
وتُقدم صحيفة الجمهورية الصراع كمأساة، مُركزةً على العواقب الإنسانية ومعاناة المدنيين، خالقةً سرديةً عاطفيةً للذاكرة الجماعية. تُحلل صحيفة "النهار" الأحداث من خلال سياق تاريخي وسياسي، مُقارنةً بحرب يوليو/تموز 2006، ومُقدمةً الصراع الجديد كسببٍ لفقدان لبنان مكانته الإقليمية، مُنشئةً بذلك هويةً وطنيةً حول الصدمة. تتخذ صحيفة الأخبار موقفاً نقدياً، مُعتبرةً الصراع الافتراضي جزءً من مكافحة العدوان الخارجي والنفوذ الغربي، مُستخدمةً في الوقت نفسه سردية الصدمة التاريخية لتعبئة المجتمع حول فكرة السيادة. بصفتها صانعة فاعلة للذاكرة الجماعية، لا يقتصر دور الإعلام اللبناني على إعلام الرأي العام فحسب، بل يُشكّله أيضا. فهو يبنيه من خلال سرديات مؤثرة: مأساة إنسانية، أو فقدان للمكانة الوطنية، أو مقاومة للعدوان الخارجي. يعكس المجال الإعلامي اللبناني الانقسامات العميقة في المجتمع، كونه مجزأً بشكل صارم على أسس طائفية وسياسية. ولكن في لحظات التهديد المشترك، تُفسح اختلافات السرديات المجال لوظيفتها التوحيدية، التي تُناشد مصير الأمة وذاكرتها المشتركة.
مجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا - العالم الإسلامي"
الصورة: Moustafa Elsamadouni/Pixabay