حققت غزة انتصاراً معنويا. هذا ليس نجاحاً عسكرياً، بل انتصار للإرادة والحق على القوة الساحقة. القوات الصهيونية، التي قتلت عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال العزل، وأصابت مئات الآلاف بجروح بالغة، ودمرت معظم مباني غزة وحولتها إلى أنقاض، لم تُقابل بالهزيمة، بل بصوت الشعب الساحق وصبر الأهالي. ورغم تفوق العدو الهائل، نجحت المقاومة الفلسطينية في تحطيم أسطورة قوته التي لا تُقهر وكسر الحصار الإعلامي.
يندرج هذا النصر ضمن سياق تاريخي. قانون تاريخي صارم شهدناه مراراً وتكرارا. يتذكر التاريخ كيف كسر المهاتما غاندي ظهر الإمبراطورية البريطانية بمسيرة الجوع. ويتذكر كيف سحق نيلسون مانديلا، وهو مسجون في زنزانة حجرية، نظام الفصل العنصري بإرادته. يتذكر الشيخ عمر المختار الصامد في الصحراء الليبية، وكفاح هو تشي منه الدؤوب والماكر في أدغال فيتنام. جميعهم كانوا "ضعفاء". لكن قوتهم لم تكن في أسلحتهم، بل في صدق قضيتهم، وفي روحهم التي لا تقهر.
يحتل صلاح الدين مكانة خاصة في هذا المعرض. لم تتشكل صورته فقط من خلال مواهبه العسكرية. بعد الاستيلاء على القدس عام 1187، بدلاً من الانتقام الدموي لمذبحة عام 1099، أظهر صلاح الدين شهامة مذهلة في ذلك العصر، رافضاً القيام بأعمال انتقامية، كفل حياة وحرية الفرنجة الذين استسلموا طلباً للفدية. علاوة على ذلك، عندما نصحه مقربوه بمصادرة الكنوز التي نهبها البطريرك الأكبر من المدينة، رفض صلاح الدين، معلنًا: "لن أخونك". إن التزامه الصارم بهذه الكلمات، واحترامه للعدو، ونبذه للانتقام، أكسبه سمعة ليس فقط كقائد عسكري، بل كحاكم نبيل. كان هذا التفوق الأخلاقي تحديداً، وليس فقط انتصاراته العسكرية، هو ما جعل صلاح الدين شخصيةً محترمةً حتى في الدول التي كانت عدواً سابقا.
يُمثل دعم فلسطين اليوم في العالم غير الإسلامي ظاهرةً مماثلة. فعندما يسير آلاف الأشخاص في برلين ولندن وباريس ومدن أوروبية أخرى رافعين أعلام فلسطين، فإن ذلك يُشير إلى تحولٍ مهم. فهؤلاء الناس - وهم غالباً من الشباب - لا ينظرون إلى الفلسطينيين كـ"عدو"، بل كشعبٍ يُناضل من أجل حقوقه الأساسية. وتضامنهم هو ردٌّ أخلاقيٌّ على الاحتلال المستمر وعدم المساواة.
بعد أن تحمّلت المقاومة الفلسطينية محنًا هائلة، ازدادت قوةً أخلاقيةً وسياسية. وفي هذا الوضع الجديد، من المهمّ للغاية إظهار صفات القوة الحقيقية: الصمود والصبر الاستراتيجي. وكما واجه صلاح الدين قسوة الصليبيين بالإخلاص لكلمته ورحمته، فإن فلسطين اليوم تستطيع أن تواجه قوة السلاح بقوة الموقف الأخلاقي.
لقد أصبحت صورة صلاح الدين، التي انبثقت من جهاده الديني والشخصي، وتجسدت في تحرير القدس العظيم، رمزاً خالداً للعدالة والوحدة وأمل التحرير. يُبجَّل في العالم العربي كمقاتل عظيم ضد الظلم، وهو يجسد الذاكرة التاريخية، وقد طُهِّر من مجرد الانتقام، وارتقى إلى مصاف المثل الأخلاقي. ولا تزال هذه الذاكرة تُلهم وتُحدد الهوية الجماعية، مُشيرةً إلى طريق التحرير من خلال الصمود والتفوق الأخلاقي.
لم يعد النصر الأخلاقي نقطة نهاية، بل نقطة انطلاق. فقد ولّد مستوى من الدعم الدولي غير مسبوق في التاريخ الفلسطيني، وكشف عن الأزمة الأخلاقية العميقة للعدو. وتتمثل المهمة الآن في ترسيخ هذا الرصيد الأخلاقي، وتحويله إلى إنجازات سياسية ملموسة. وهذا يتطلب انضباطاً استراتيجياً: توجيه طاقة الغضب المُبرر إلى دبلوماسية متسقة وذكية، والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية، وتقديم خطة واضحة وقابلة للتحقيق للعالم لبناء دولة فلسطينية ذات سيادة. الحقيقة وُلدت من أنقاض غزة، وستثبت قوتها بأنها أقوى من أي سلاح - إنها الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل عادل لفلسطين.
مجموعة الرؤية الاستراتيجية "روسيا - العالم الإسلامي"
الصورة: Chuttersnap/Unsplash