أصبحت فترة النهضة في مطلع القرن العشرين ساحةً لتنافس أيديولوجي حاد، حيث تضاربت الرؤى حول مستقبل العالم الإسلامي. دعا البعض إلى توحيد جميع المسلمين تحت حكم الخليفة؛ وروّجت الدولة العثمانية لفكرة الأمة الواحدة، حيث كان الولاء للسلطان، لا الأصل أو المعتقد، هو المعيار الأساسي؛ كما كانت القومية العربية، التي أكدت على الهوية العربية، تكتسب قوة. دار هذا الصراع الفكري، من بين أمور أخرى، حول الحق في تفسير التاريخ، واستخدم مفكرو كل مدرسة صورة الحروب الصليبية بطريقتهم الخاصة لإقناع معاصريهم.
تختلف الآراء الأكاديمية حول الحفاظ على ذكرى الحج المسلح في العصور الوسطى في العالم العربي. ويجادل من يتبنى أحد الآراء بأن هذه الأحداث قد نُسيت، مع الإشارة إلى نقص المصطلحات المتخصصة والأعمال التاريخية باللغة العربية حتى القرن التاسع عشر. على النقيض من ذلك، يرى رأي آخر أن الذاكرة حُفظت من خلال عناصر الثقافة الشعبية، مثل الحكايات الشفهية عن السلطان بيبرس. ولعلّ إشارة المصادر العربية في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى الحروب الصليبية دون تفسير يُعزز هذه النظرية الثانية.
رأى جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهما من أبرز الشخصيات في التيار الإسلامي والإصلاحي، في هذه الحملات العسكرية تذكيراً صارخاً بالتهديد الأبدي من الغرب. وفي كتابه "ردّ الماديين"، ربط الأفغاني تراجع العالم الإسلامي بانتشار الأفكار المادية التي أضعفت الأمة، معتبراً كارثة الحروب الصليبية مثالاً على عواقب هذا التدهور الروحي.
ونظراً لتطور فكر أستاذه، رأى عبده أن سبب التراجع يكمن في فساد الحكام وأخطائهم. بالتعاون مع الأفغاني، نشرا في صحيفة "العروة الوثقى" دراسة، صوّرت الحروب الصليبية ليس فقط كاضطراب عميق في العالم الإسلامي، بل أيضاً كفترة استعار فيها الأوروبيون التكنولوجيا والمعرفة من المسلمين، مما ساهم لاحقاُ في النهضة الأوروبية.
وصف مصطفى كامل، مؤلف كتاب "المسألة الشرقية"، الصراع ضد السياسة الاستعمارية البريطانية بأنه جزء من إجابة هذا "السؤال". وربط المؤلف بشكل وثيق بين الجوانب السياسية والدينية للصراع بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا. رأى كامل أن حل المسألة الشرقية يكمن في خلافة بقيادة تركية، محذراً من أن "سقوط الباب العالي... سيكون ذريعة لحرب دموية، ستبدو بعدها الحروب الصليبية مجرد شجارات طفولية".
في صفحات كتاب "الرابطة الوطيدة"، نظر الأفغاني ومحمد عبده إلى الحملة الصليبية والثورة المهدية في السودان ككيانين منفصلين. وتبعهما مصطفى كامل، طبق هذا المفهوم على الصراعات العسكرية والسياسية المعاصرة بين أوروبا والعثمانيين. وأشار أيضاً إلى الاعتبارات المادية التي تكمن وراء هذه المواجهات، مشيراً إلى أن الخطاب الديني يلعب دور الغطاء الإيديولوجي.
استخدم المفكران العربيان عبد الرحمن الكواكبي ورفيق العظم تاريخ الحروب الصليبية كرمز تاريخي قوي، ولكن لأغراض مختلفة. الأول، وهو صحفي سوري، دعا إلى إنشاء دولة عربية موحدة عاصمتها مكة المكرمة. أما الثاني، وهو من مواليد دمشق، فقد شارك أفكار الإصلاحيين الأتراك الشباب، ودعا أيضًا إلى توحيد العرب واستقلالهم عن الإمبراطورية العثمانية.
رأى الكواكبي الحروب الصليبية مصدرًا للتعصب الديني، الذي أدخله الصليبيون، في رأيه، بينما اتسم الإسلام المبكر بالتسامح. وهكذا، كانت الصراعات الدينية المعاصرة في الإمبراطورية العثمانية نتيجة لهذا "الفيروس" الدخيل. في الوقت نفسه، اعتبر الكواكبي الحروب الصليبية عقاباً إلهياً على الفساد الأخلاقي وتشويه الإسلام الحقيقي. جادل رفيق العظم بأن المسلمين خلال الحروب الصليبية فشلوا في التوحد بفعالية المسيحيين. واعتبر ذلك ضعف الدين كقوة توحيدية مقارنة بالقومية. على غرار عبده، أقرّ العظم بأنّ التواصل مع العالم الإسلامي خلال الحروب الصليبية وفي الأندلس ساهم في التنوير الأوروبي.
تطورت آراء محمد عبده مع مرور الوقت من المواجهة إلى التعاون مع أوروبا. ركّز، بصفته مفتي مصر، على الإصلاح الداخلي للإسلام. في رسالة التوحيد، دحض عبده الصورة النمطية للطبيعة العدوانية للإسلام، واصفاً فتوحات الخلافة المبكرة بأنها أعمال دفاع عن النفس، ومطوّرًا فرضية التأثير الإيجابي للحضارة الإسلامية على أوروبا من خلال الحروب الصليبية.
يُستكشف نطاق التفسيرات بمزيد من التفصيل في أعمال أوليغ سوكولوف، وهو دكتور في العلوم التاريخية. عند استكشاف وجهات نظر مختلفة، من المهم إدراك أن الحقيقة المطلقة حول حدث تاريخي أمرٌ بعيد المنال. تتفق آراء المفكرين العرب حول الحروب الصليبية إلى حد كبير، على الرغم من أن الآراء حول مختلف القضايا في واقعنا قد تختلف اختلافاً جذريا. الحقيقة عالمية، لكن من المهم إدراك طبيعتها المعقدة ومتعددة الأوجه والذاتية. ومع ذلك، من خلال منظور كل مفكر، تبرز بصيص من الحقيقة بوضوح.
مجموعة الرؤية الاستراتيجية "روسيا - العالم الإسلامي"
الصورة: Public Domain