Ru En

ملامح انسانية في ملاحم تاريخية بريشة فيريشاغين

١٣ سبتمبر ٢٠١٩

يعد الفنان التشكيلي الروسي فاسيلي فرييشاغين (1904-1842) أحد أبرز الرسامين الذين يتبادرون إلى الذهن، عند الحديث عمّن وثّقوا حالات الحرب والسلم من خلال الابداع بالريشة. وعلى عكس الكثير من المبدعين، ليس فقط في مجال الرسم، حقق فيريشاغين شهرة ومجد عظيمين في حياته، ليرى بنفسه اسمه برّاقاً بين أسماء العباقرة.

 

وقد كانت أعماله الفنية محط أنظار العامة ومثار للاهتمام والنقاش بين النقاد، إذ أن فيريشاغين لم يكن يركّز من خلال لوحاته على الانتصارات والبطولات في الملاحم، بل كان يولي جل اهتمامه لإظهار ملامح المعاناة على وجوه الجنود، وهو ما كان بمقدور الرسام القيام به بفضل مشاركته كعسكري في العديد من الحملات، ما جعله شاهد عيان لامس بنفسه ويلات الحروب وعرفها عن قرب.

 

***

 

وُلد فاسيلي فيريشاغين في مدينة تشيريبوفيتس الواقعة في الوسط بين موسكو وبطرسبورغ، ما انعكس على بلورة شخصية الفنان التي تجسّد فيها معنى الانتماء الوطني من جهة، وانعكاس حسّه الفني المرهف المتدفق من أعماقه، إبداعاً متناغماً مع روح عاصمة روسيا الثقافية من جهة ثانية.

 

قرر والدا فاسيلي إلحاقه بالفيلق العسكري البحري للصغار في سن التاسعة، وكان الفنان يتذكر هذه الفترة من حياته كواحدة من أكثر مراحلها صعوبة. ظهرت مواهب الفنان الصغير في أثناء تلقيه تحصيله العلمي في الفيلق، فكان يواظب على زيارة مدرسة الفنون التشكيلية والتواصل مع الرسامين.

 

عارض فاسيلي قرار والديه الراغبين بأن يتم تحصيله العلمي في المجال العسكري، إذ قرر في عام 1860  الانتساب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، وذلك تزامناً مع رغبته في اختبار قدراته في الحقل الأدبي، حتى أنه عرض مجموعته القصصية "حكاية صياد قديم" للنشر في صحيفة "غولوس"، (الصوت)، التي كانت تصدر  آنذاك في بطرسبورغ. إلا أن آراء النقاد السلبية إزاء عمله المنشور دفعته إلى العدول مؤقتاً عن مزاولة الأدب، وتكريس وقته للسفر والترحال ليستوحي منها الكثير من أفكار أعماله الفنية حتى أنه صار يُسمّى بـ "الرسّام الرحّال".

 

ملامح انسانية في ملاحم تاريخية بريشة فيريشاغين

فاسيلي فرييشاغين خلال أول رحلة إلى القوقاز / Public Domain

 

 

أولى رحلات فيريشاغين كانت إلى القوقاز، وتحديداً إلى مدينة شوشا الواقعة في مرتفعات قره باخ، حيث اقترب من حياة الشعوب التي تقطن المكان، ودرس عاداتها وتقاليدها وبدأ في رسم الخطوط الأولى للوحاته.

 

يصف فيريشاغين حياته في تلك الحقبة قائلاً: "سافرت كثيراً وأدركت مبكراً أن السكك الحديدية و البواخر صُنعت لتُستخدم. الرحلات مدرسة عظيمة. لقد رأيت وسمعت الكثير، ولدي الكثير مما أبوح به. خالطت ورسمت وكتبت برغبة صادقة لمشاركة الآخرين ما تعلمته واكتسبته".

 

بعد عام سافر فيريشاغين إلى باريس حيث عمل وتتلمذ على يد الرسام المعروف، الأكاديمي المستشرق جان ليون جيروم، الذي خلّف إرثاً فنياً كبيراً كرّسه للشرق العربي، ومن ثم رحل مجدداً إلى القوقاز، ليقرر العودة إلى أكاديمية الفنون لإتمام الدراسة فيها في عام 1866.

 

التحق فاسيلي فيريشاغين بالخدمة العسكرية في صفوف قوات الجنرال قسطنطين فون كاوفمان في آسيا الوسطى بوظيفة رسام. وقد وصل الفنان إلى سمرقند في عام 1868. ولكن سرعان ما اندلعت شراراة ثورة على يد السكان المحليين الذين حاصروا القلعة الروسية. وقعت اشتباكات بين الجانبين شارك فيها فيريشاغين حيث أبلى بلاءً حسناً، حتى أنه تم تكريمه لقاء استبساله بمنحه وسام القديس جاورجيوس من الدرجة الرابعة.

 

أقام فاسيلي فريشاغين معرضاً في بطرسبورغ عام 1869، قوامه لوحات رسمها في آسيا الوسطى. بفضل هذا المعرض اكتشف الزوّار على نمط الحياة في هذا الإقليم الذي ظل غامضاً ومجهولاً بالنسبة لأكثرهم، إذ شاهدوا لوحات رصدت أسواق الرقيق وفقراء يتعاطون الأفيون ونساء تغطيها الملابس من قمة الرأس حتى أخمص القدمين.

 

بعد إنتهاء المعرض عاد فيريشاغين أدراجه إلى آسيا الوسطى، ولكن هذه المرة عبر سيبيريا وأراضي الغرب الصيني وقرغيزيا، حيث حل ضيفاً على صديقه الثري بايتيق كانايف، الذي كان قد تعرف عليه في إحدى المناسبات الرسمية في بطرسبورغ، والذي رسم فيريشاغين في 1870 لوحة يظهر فيها صديقه بعنوان "الصياد القرغيزي الغني مع الصقر».

 

ملامح انسانية في ملاحم تاريخية بريشة فيريشاغين

الصياد القرغيزي الغني مع الصقر / Public Domain

 

امتازت لوحات فيريشاغين هذه بإظهار أدوات الزينة والاستعمال اليومي لدى شعب القرغيز، ابتداءً من خيام الـ يورت والسجاد الفاخر وصعوبة العمل في نسجه، وأنواع السلاح التي يستخدمها المحاربون هناك وحتى الزخارف التي تُنقش عليه، بالإضافة إلى لوحات أبطالها أشخاص عاديون يمارسون حياتهم اليومية. كما أنه كن يتنقل بين أرجاء الأراضي القرغيزية لرسم المناظر الطبيعية الخلّابة في السهول والجبال.

 

"أوج الحرب". يُعد هذا العمل الفني أحد أشهر أعمال الرسام الروسي فاسيلي فيريشاغين، يظهر فيه هرم كبير من الجماجم التي تحوم حولها الغربان. رسم الفنان لوحته هذه بعد تمرد دونغان في سنجان بالصين قام به شعب الـ هوي المسلم، واستمر من 1862 حتى 1877، لينتهي بإحراق كل المدن في المنطقة، ما دفع أبناءها إلى اللجوء لروسيا.

 

ملامح انسانية في ملاحم تاريخية بريشة فيريشاغين

أوج الحرب / Public Domain

 

لم يكن فيريشاغين يتمتع بحظوة السلطة الحاكمة في روسيا، إذ كانت لوحاته تثير استياء النخبة. وقبيل إحياء معرض لوحات الفنان في 1874 في قاعات مبنى وزارة الداخلية، التي كانت تعج بعدد كبير من الزوار، صدر مرسوم حكومي يقضي بأن يرسم فيريشاغين لوحات تمجّد العسكريين، وتظهر أوسمة البسالة ونياشين الشجاعة على صدورهم. إلا أن الفنان أبى إلا أن ينحاز لانسانيته ليرسم الجانب الآخر من البطولات، العمل المضني، القتلى والجرحى من ضحايا الحروب، حتى أنه اتهم بانعدام الحس الوطني وبالتعاطف مع العدو.

 

تنوّعت لوحات فاسيلي فيريشاغين سواء من حيث المواضيع المتناولة أو من حيث البلدان التي صوّرها بريشته، فلم يقتصر اهتمام الفنان الروسي على آسيا الوسطى والصين وما يدور فيها من أحداث، إذ أنه تنقل في أنحاء المعمورة لتصل قدم الرسّام الرحّال إلى الشرق العربي وإلى أراضيه المقدسّة. وهو ما سيتم تناوله في المادة التالية.

 

يتبع…

 

الصورة: فيريشاغين في ورشة العمل / Public Domain