"صفقة البنزين" ، المهمة الإنسانية على أراضي المملكة العربية السعودية ، الصداقة الحميمة وإحترام الملك الشخصي وولي العهد فيصل له ، ظهور الدفئ في العلاقات بين البلدين المختلفين في سياسيتهما - المملكة العربية السعودية والاتحاد السوفيتي ، تنظيم الحج ومساعدة الحجاج السوفييت - يمكن سرد أعمال كثيرة ومزايا نذير توريكولوف ، الدبلوماسي السوفيتي ، ومندوب مفوض لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في مملكة الحجاز آنذاك ونجد والمناطق المضمومة اليها . كل ما عمله تم التحقق منها خطوة خطوة . على الرغم من حياته القصيرة ( اعدم رميا بإطلاق الرصاص عليه في سن 46) ، تمكن توريكولوف ليس فقط من ترك أثر كبير في تاريخ الاتحاد السوفياتي ولكن أيضا ليصبح معيارا، ومثالًا لدبلوماسي شعوب آسيا الوسطى.
بداية رحلة الدبلوماسي السوفيتي
يخبرنا تاريخ الدبلوماسية الوطنية أن أنشطة السفراء كانت مصحوبة بصفات مثل اللطف والذكاء وعدم الانانية. كان السياسيون ورجال الدولة ، بما في ذلك العلماء والكتاب ، همزة الوصل بين مختلف شعوب العالم و الدول والثقافات الاخرى المختلفة. نذير اتبع تقاليد التنوير الوطني والتي لا يوجد إنفصام في خدمتهم المتوترة والمحفوفة بالمخاطر في كثير من الأحيان ، وسمات الشخصية – المتمثلة في الضيافة والبلاغة والذهول - عمل على ترسيخ الصداقة والثقة في مختلف المواقف.
كان هذا هو نذير توريكولوف ، الدبلوماسي السوفييتي المستقبلي والممثل المفوض للاتحاد السوفياتي لدى المملكة العربية السعودية. ولد في عام 1892 من عائلة كازاخية ثرية ، تعتبر عائلته تاجرة من الطبقة الأولى ، والتي كانت تتاجر في القطن والأقمشة في كوكاند. نلاحظ خلال سنوات دراسته ،أنه تأثر بشدة بوالدته المتدينة ووالده العلماني ، اللذين تحدثا اللغة الروسية بشكل جيد للغاية واخذ منهم هذا التنوع وقد خصصوا أنشطة تعليمية خاصة لابنهم. أصبحت التربية في مثل هذا التعليم متعددة الاتجاهات ، التنوير الروحي لهذا الطفل ، ولذلك خلق اندماجًا فريدًا في فهم عقلية وثقافة المسلمين مع الرغبة في البرجوازية المسلمة الليبرالية. كل هذا انعكس في حياته المستقبلية ،لانه كان متخصص في دراسة تاريخ الثورة الفرنسية مع الاهتمام بالحركة الاشتراكية الروسية التى ظهرت سهلة بالنسبة لأخصائي شاب كنذير.
في عام 1904 ، تخرج نذير من المدرسة الدينية ، وبعد ذلك بعامين – التحق بمدرسة روسية المخصصة للتلاميذ من الاصول الروسية. في عام 1914 ، تخرج من الصف الثامن في المدرسة التجارية في كوكاند. بفضل قدرات والده ، تمكن توريكولوف من الحصول على تعليم جيد. في عام 1914 دخل معهد موسكو التجاري ، الذي تركه في السنة الثالثة. والسبب في ذلك هو التعبئة العامة لشعوب آسيا الوسطى من أجل الحرب العالمية الأولى. ونتيجة لهذا التعبئة ، مات مئات الآلاف من الكازاخستانيين والقيرغيز والأوزبك دون حتى الوصول إلى الجبهة. قرر نذير ترك دراسته والذهاب إلى الجبهة كمدرب لنقابة "زمستفو" ، وفي الواقع - كجزء من مهمة إنسانية. هنا ، تخلى عن كل قوته لتقديم كل المساعدة الممكنة لشعوب الشرق في كفاحهم من أجل التحرر الوطني. لهذا الغرض ، بدأ في إنشاء منظمة "السهوب الحرة" ، التي كانت مقرها بالقرب من مينسك البيلاروسية.
وتجدر الإشارة إلى أن نذير توريكولوف دعم بنشاط المثل العليا للثورة ، وشارك في إنشاء القوة السوفيتية. علاوة على ذلك ، كان رئيسا للجان الثورية الأولى ، وكان احد ممن انشوا جامعة تركستان ولعب بشكل عام دورًا مهمًا في تطوير وتنمية منطقة تركستان.
الطريق من كوكاند إلى منصب رئيس دار النشر المركزية لشعوب الاتحاد السوفياتي
في عامي 1918- 1919 نذير شغل منصب سكرتير اللجنة التنفيذية للمنطقة ، وكان مفوض التعليم ورئيس قسم التعليم العام. من عام 1920 ، شغل عددًا من المناصب الحكومية في طشقند: محرر صحيفة (هيئة المكتب الإسلامي الإقليمي) ، المفوض الشعبي للتعليم في تركستان (1920-1921) ، الأمين التنفيذي للجنة المركزية للحزب الشيوعي البلشفي ( أيلول / سبتمبر - تشرين الثاني / نوفمبر 1921) ، رئيس اللجنة التنفيذية المركزية لتركستان (تشرين الثاني / نوفمبر 1921 - اذار / مارس 1922). في منصب رئيس اللجنة التنفيذية المركزية ، اتخذ توريكولوف قرارًا تاريخيًا: في عام 1927 وقع مرسوما بموجبه "من أجل تقديم أفضل خدمة من قبل المؤسسات السوفيتية لغالبية السكان الأصليين في تركستان" . قررت اللجنة المركزية تغيير يوم العطلة الأسبوعية إلى يوم الجمعة ، وفي الشركات المختلطة حسب قرار الأغلبية. بالإضافة إلى ذلك ، أعتمد أيضًا عطلة عيد الاضحى ثلاثة ايام.
وتجدر الإشارة برغم تقديم نذير البحث في سن مبكر ، الا انه لم يكمل الدراسات العليا ، الى أنه كان بالفعل رجل الشرق المؤثر ، حيث أصبح بالنسبة للسلطات ليس فقط شخصًا مطلعا وضروريا ، ولكنه بقي ملكًا في اوساط مواطنيه. وإذا تحدثنا عن المشاعر الوطنية لنذير توريكولوف ، فقد بنى وطنيته على حقيقة أنه كان غير راضٍ على سلوك النزعات لا السلافية ولا التركية، و لا الشوفينية المحلية المتجذرة . كان الإيمان بهذا في شبابه متجذرًا ، ثم أصبح أساس رؤيته للعالم ، ومفتاح عمله الناجح في السياسة والصحافة والدبلوماسية. وقد سمى بنفسه نظرته للعالم بأنها "وطنية" لأنه في عمله انطلق من احتياجات وتطلعات شعوبه والشعوب أخرى.
طوال عمله، أولى اهتماما خاصا لتعليم الشعوب. كان هذا واضحا بشكل خاص خلال السنوات التي عمل فيها توريكولوف رئيسًا لـلجنة المركزية ( دار النشر ). في عام 1922 قدم إلى موسكو ، حيث تم تعيينه رئيسًا لمجلس دار النشر المركزية لشعوب الشرق. ومنذ ذلك الحين ، ركز على العمل الإيديولوجي في الأدب السياسي والعلمي والتعليمي والإبداعي والصحافة. في غضون ست سنوات ، أنتجت دار النشر 60 مليون كتاب ( عمل ) من الأدب العلمي والتربوي والسياسي والإبداعي في 50 لغة لشعوب الاتحاد السوفيتي. وهكذا نرى أن توريكولوف وقف في بداية سياسة الاتحاد بالكامل للقضاء على الأمية وتعليم الناس. وقد ساعده في هذا المجال التدريسي نائب عميد معهد الشعوب الشرقية.
في هذا المنصب قام بعمل الكثير لتطوير الأدب والعلوم الكازاخستانيين. لذلك ، في موسكو ، لحسن حظه تم نشر أعمال مجان جمعابايف الادبية، والغير معروفة للكثير. نشر المؤلفات ليس فقط الأعمال الادبية لشعبه الكازاخستاني ، ولكن نشر أعمال العظماء من مختلف شعوب الاتحاد السوفيتي ، بما في ذلك أعمال رجل الدين التتاري شيخ بودين مرجاني. في عام 1922 ، قام بتوظيف عليخان بوكيخانوف في دار النشر المركزي بالقسم الكازاخستاني .
أدى هذا العمل الهادف لتوريكولوف في مجال السلام القومي والألفة بين الأعراق ، إلى جانب عمله التعليمي ، صفاته الشخصية ومستوى تعليمه (بما في ذلك إيجاده التحدث بسبع لغات ، من بينها اللغة الأوروبية) إلى اعتماد المكتب السياسي في 24 نوفمبر 1927 قرار "تعيين توريكولوف مبعوث مفوض الى جدة وبالضبط الى الحجاز ونجد وملحاقتها " ، ليحل محل حكيموف ، الذي كان يعمل في جدة منذ عام 1924
البعثة الدبلوماسية إلى العرب: بناء علاقات وصداقة ودية مع الأمير و صفقة الغاز
في مناشدة لستالين بخصوص نذير توريكولوف قيل: "القدرات الرائعة لتوريكولوف سمحت له بفهم العالم الإسلامي بأكمله من المغرب إلى إندونيسيا. إمكانيته الفكرية ومعرفته بالعالم الإسلامي ونظرته للعالم تعطي امل بأن مثل هذا الشخص يكون قادرًا على أداء وظائف مفوض اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بشكل كامل.
واجه توريكولوف، بصفته ممثل ومفوض للاتحاد السوفيتي، مهمة صعبة - هي إستمال العالم الإسلامي بأكمله، الذي كان مركزه الشرق الأوسط ، إلى الأيديولوجية السوفييتية.
بعد رحلة في الطريق استغرقت شهرين وصل الدبلوماسي السوفيتي، الذي هو من اصل كازاخستاني والذي بلغ من العمر 36 عاما الى السعودية وسلم أوراق اعتماده من الحكومة السوفيتية لابن الملك السعودي ، ولي العهد الأمير فيصل ، بسبب غياب الملك في البلاد.
كانت مشكلة عدم معرفة توريكولوف باللغة العربية في ذلك الوقت قصيرة الأجل ، فبعد فترة قصيرة من الدراسة ، تمكن من رفع مستواه معرفته باللغة العربية ، حيث تمكن ليس فقط من التحدث مع الجمهور ، ولكن حتى التأمل في الموضوعات الدينية . سعى الدبلوماسي إلى التواصل المباشر و المكثف مع الملك والأشخاص المحيطين به وكل حاشيته ، كما عمل على اقامة علاقات وثيقة في أوساط السلك الدبلوماسي الاجنبي. انغماسه في معرفة لغة وثقافة الشعوب العربية بلغ الى مستوى مكنه من متابعة حتى الامور الصغيرة اليومية. أهتم توريكولوف بمشكلة الخدمات الطبية للسكان المحليين. كانت زوجته، نينا ليفاشوفا، تعالج الإناث من العائلة المالكة. بالتوازي مع ذلك ، حث توريكولوف على إضافة أطباء مؤهلين بتخصاصات مختلفة في طاقم كوادر البعثة الدبلوماسية.
وهكذا تدريجيا يقوم مبعوث الاتحاد السوفييتي إلى المملكة العربية السعودية بتأسيس علاقات مستقرة وموثوقة مع النخبة الروحية والدينية والعلمانية في الحجاز. سرعان ما اكتسب سمعة كمسلم "مخلص". كان الملك عبد العزيز آل سعود نفسه ينادي نذير توريكولوف بالشقيق، كما أنه تمتع بعلاقات جيدة مع أبناء الملك، وخاصة مع الأمير فيصل. يمكن الحكم على ذلك من تقرير توريكولوف الذي أرسل إلى موسكو، والذي يقول فيه: "النزاع التاريخي مع البريطانيين حول الأقدمية في اقامة العلاقات الدبلوماسية قد انتهى كليا لصالحنا ... في الاحتفالات الرسمية، أحصل على المركز الأول ، ريان (البريطاني) - المركز الثاني ، ميجري، الفرنسي القائم بالأعمال - المركز الثالث ، أيول مُلك (الفارسي) - المركز الرابع ... ريان يحافظ بعلاقته تجاهي بشكل سليم ولائق، ويخاطبني وكأنني عميد السللك البدبلوماسي".
هناك حدثان تاريخيان غيرا مجرى مسار تطور العلاقات السوفيتية السعودية وهما : "صفقة الغاز" ، حيث تم تسليم 50 ألف صندوق من الغاز إلى الحجاز ونفس الكمية من الكيروسين وزيارة الأمير فيصل الرسمية التي استغرقت عشرة أيام لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية عام 1932والتي اضحت تسليم المملكة العربية السعودية مقسم تليفونية وفتح دورات تعلييمية للعمل عليها وصيانتها في مكانها. يمكن اعتبار هذه الزيارة أحد الإنجازات الشخصية الرئيسية لنذير توريكولوف كسفير. فهمت موسكو أنها لن تستقبل فقط نجل العاهل السعودي، بل وريث العرش. من جانبه ، الجانب السعودي أمل في التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السوفيتية بشأن توفير قروض السلع السوفيتية.
بعد عام ، في عام 1933، قام توريكولوف باداء مناسك الحج، والذي يمكن اكتشافه ، من بين رسائل زعيم حركة التتار الإسلامية غياز إسحاكي ، حيث جاء بها : " ظهرت سيارة مزينة بأعلام حمراء عليها المنجل والمطرقة في شوارع مكة مع اصوات التصفيقات لا نهاية لها. كان هناك اثنان في السيارة... كان الأصغر ليس سوى نذير توريكولوف، ممثل السوفييت في الحجاز، عضو الكومنترن ... "بالإضافة إلى ذلك ، ساعد بنشاط عدد قليل من الناس لاداء الحج قدموا من جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية.
ولكن في عام 1936 ، تم إستدعاء توريكولوف الى الاتحاد السوفيتي وتم عزله من منصبه . وبعد ذلك بعام ، في 15 تموز/ يوليو 1937 تم اعتقاله. سيتم إعدام نذير في 3 نوفمبر بتهمة المشاركة في التخريب المنظم من قبل المنظمات الإرهابية والمناهضة للسوفييت والهادفة إلى الإطاحة بالنظام السوفييتي. ومنذ ذلك اليوم ، أوقفت المملكة العربية السعودية جميع علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي لمدة نصف قرن. أليست هذه شهادة حية على الثقة التي يستحقها توريكولوف بين العرب، بين العائلة المالكة بأكملها ، لجعله ليس فقط سفيرا ، مسؤولًا، ولكن صديقا وأخا.
طاهر إيموحاميتوفيتش منصوروف، باحث في حياة نذير توريكولوف وكتابه